مجزرة سربرنيتشا – احسان الفقيه

0

في “الكولوسيوم”، ذلك المدرج الروماني العملاق، احتشد الرومان كالعادة، وبحضور قيصر روما وأعضاء مجلس الشيوخ، في مسلسل تغييب الشعوب.
الجموع التي تتعالى صيحاتها مرحًا، جاءت لتكسر الملل وتُجدّد الشعور بجمال الحياة، لا على أنغام القيثارات التي تعزف عليها حسناوات روما، وإنما بتلك المشاهد الدموية لمُباريات يكون فيها الإنسان في مواجهة الوحوش:
الأول يبحث عن فرصة للبقاء على قيد الحياة.
والثاني يلتمس فريسة يُشبع بها غريزته، ويظفر بها غالبًا.
ذلك هو الغرب. كُن دمويًا أكثر، تمنح المتعة لنفسك وللآخرين.
الناظر إلى أوروبا ومدنيتها الباهرة يظن أن نظافة القوم في وجوههم وملابسهم ومدنهم هي فيضٌ من نظافة ضمائرهم وأرواحهم. وهُنا يكمُن جهلُنا المُركّب فيهم.
فالعكس تمامًا هو الصحيح:
هم أقذر أهل الأرض ضمائر وأرواحًا.
بل وتقدّمهم الواسع في العلوم والاكتشافات والبحث العلمي لم يخلعهم من طبائعهم البهيمية حين كانوا في عصور الظلام من قبائل (الغال والقوط زالوندا ولانجلو والسكسون) المتوحشين. ولنطلق العنان للتاريخ ليطالعنا بصفحاتهم السوداء:
أوروبا، والغرب، ومنذ قرنين من الزمان، أخضعت العالم تحت سيطرتها وتملك وسائل شتى لإخفاء فضائحها وجرائمها؛ وهذه السيطرة مكّنتها من ارتكاب أبشع الجرائم في التاريخ ثم فرضت الرقابة على وسائل الإعلام. ولا يصل من حكايات دمويّتها ولو فصل واحد (في مشارق الأرض ومغاربها) إلا بعد سنوات من إسدال الستار وموت كلّ الذين كانوا فوق الخشبة، وفي الكواليس أيضًا.
لقد ظنّت الإنسانية أن المذابح والمجازر التي حدثت في الحربين العالميتين قد أُسدل الستار عليها وإلى الأبد. فكيف يمكن أن تحدث أي جريمة وهناك بناء شديد الفخامة -وسط نيويورك بأمريكا (راعية السلام)- يطلقون عليه مبنى الأمم المتحدة، والتي يقبع فيها كذلك تمثال الحرية رمز الإنسانية.
إلا أن المذبحة الأفظع في التاريخ الأوروبي الحديث والمجزرة الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية مذبحة “سربرنيتشا”، المدينة التي أُبيدت عن بكرة أبيها حتى اختفى سكانها عن وجه الأرض في كارثة إنسانية مروعة تكاتفت القوى العالمية على إخفائها والتواطؤ على سكانها؛ بل وأشرف على تنفيذها ألدّ أعداء الإسلام.
وإليكم مسار الأحداث:
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي المفاجئ عام 1989، بدأ الاتحاد اليوغسلافي الاشتراكي الذي كان يسمى “برميل بارود أوروبا” بالتحلل والانفصال التدريجي أيضًا.
الاتحاد اليوغسلافي، الذي كان يحكمه (تيتو) بقبضة حديدية، كان يضمّ ست دول هي (كرواتيا وصربيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وسلوفينيا ومقدونيا).
فهو يضم مزيجًا عرقيًا ودينيًا متناقضًا حادًا، ولكن البوسنيين كانوا هم الغالبية العظمى من السكان!
هذا التناقض الديني والعرقي كان هو الشرارة التي أشعلت الحرب الكونية الأولى، والتي كانت سببًا للحرب العالمية الثانية.
أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن الاتحاد اليوغسلافي عام 1991، ثم أعقبته باستفتاء؛ وكانت نسبة المشاركة في ذلك الاستفتاء 63.4% وقد صوت لصالح الاستقلال 99.7% من الناخبين.
قاطعت ذلك الاستفتاء نسبة كبيرة من الصرب، والذين كانوا يريدون تأسيس (جمهورية صربيا العظمى). ولما رفض البوسنيون الانضمام؛ شنت صربيا حرب إبادة وتطهير استمرت ثلاث سنوات ارتكب فيها الصرب من الجرائم ما لا يصدقه عقل وما لا يصدقه البوسنيون أنفسهم.
في تلك البلاد ذات الطبيعة الساحرة والأرض الخلابة، عاش البوسنيون والصرب قرونًا عددًا جنبًا إلى جنب، درسوا وأكلوا وتجاوروا وتزاوجوا ولم يخطر في بال أحد أن تنقلب الأيام وأن تحدث هذه المجازر.
تقول النكتة اليوغسلافية: “لماذا أكون أنا الأقلية في بلدكم بينما يمكن أن تكونوا أنتم أقلية في بلد”!
وقد طبّق الصرب هذه المقولة الدقيقة بحذافيرها، والعالم المنافق يتفرّج.
تقرير البعثة الدولية لبحث أسباب حرب البلقان الصادر عن “مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي” يقول: “ما حدث في حرب البوسنة في نهاية القرن العشرين لم يختلف كثيرًا (أيديولجيًا) عما حدث في أوائل القرن في كثير من المدن والقرى وما حدث في الحرب العالمية الثانية”.
ويضيف التقرير السابق أنه ومنذ بدأ القتال عام 1992 كان هناك أكثر من ألف مسجد، ولكن بحلول شتاء 1995 لم يبقَ إلا أقل بكثير من مئة مسجد.
بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة، في زيارته اليتيمة إلى البوسنة إبان الحرب وبّخ أهالي سراييفو قائلًا: “إنني أتفهم خيبة أملكم، ولكنكم في وضع أفضل من عشرة أماكن أخرى في العالم، وأستطيعُ أن أعدد لكم القائمة”.
تدخلت الأمم المتحدة تدخّلًا باهتًا في الحرب؛ فأعلنت مدينة “سربرنيتشا” المحاصرة وما حولها (منطقة آمنة منزوعة السلاح) وفقًا للقرار المشؤوم رقم 819 في 16 أبريل 1993؛ فدخلت قوات حفظ السلام الهولندية وعددها 600 جندي بقيادة الكولونيل “كاريمانس”.
تحت وطأة الحصار الخانق والجوع والظروف القاسية، اجتمع في المدينة أكثر من 50 ألف لاجئ ولاجئة من جميع أنحاء البوسنة؛ ويا ليتهم ما اجتمعوا.
قامت قوات حفظ السلام الهولندية بجمع السلاح من أهالي مدينة سربرنيتشا المسلمين وحدهم وسلموها للصرب؛ وهنا تبدأ أولى فصول المسرحية الهزلية الدموية وكوميديا الغرب المنافق المفصوم.
من 6 حتى 8 تموز 1995، بدأت دبابات القوات الصربية الغازية التي كانت تُحاصر المدينة لشهور تحت القصف بالتوغّل داخل المدينة المنزوعة السلاح، وبدا العالم مشلولًا مذهولًا، لا يحرك ساكنًا بعد أن أطبق الظلام الحالك على أرض الإسلام.
عصر يوم 11 تموز الدموي، ظهر الجنرال الصربي جزار الحرب (راتكو ملاديتش) في شريط مصور أنتجته قناة BBC وهو يتوعد المسلمين بالانتقام قائلًا: على المسلمين بعد اليوم أن يُعدّوا أحياءهم وليس أمواتهم.
بعد هذا التهديد الوعيد المُتغطرس؛ لجأ معظم سكان المدينة، بالإضافة إلى النازحين من القرى المجاورة، إلى مبنى الأمم المتحدة الذي يحمل الحرفين الأنيقين (UN) على أمل أن يكون النجاة من الموت المُحتّم. وحسب شهود عيان، كان تعداد من لجؤوا إلى مبنى الأمم المتحدة بين 20 إلى 25 ألفًا من المدنيين العُزّل.
فور دخول القوات الصربية المجرمة إلى المدينة، وأمام اختفاء أي ردّ فعل دولي؛ أخذوا 30 جنديًا من قوات حفظ السلام الهولندية كرهائن، ثم طلب ملاديتش الاجتماع بقائد القوة الهولندية الكولونيل (كاريمانس) بشكل فوري وعاجل.
ظهر الرجلان في الاجتماع وهما يتهامسان بهدوء يحسدان عليه، ثم قرر قائد قوات (حفظ السلام) تسليم آلاف المدنيين العُزّل غنيمة سهلة إلى وحوش الإجرام الحاقدين مقابل الرهائن الهولنديين.
في إجراء فاشي نازي استئصالي، أمر المجرم ملاديتش بعزل الذكور من سن 12 إلى 77 عامًا وترحيلهم عبر حافلات وشاحنات وأخذهم إلى مستودعات وملاعب الكرة ودور الحضانة ومدارس الأطفال.
في غضون ساعات من التاريخ، كان الدمع والدم يخط مجراه على الوجوه؛ حيث تمت تصفية 8000 من الذكور بين طفل ورجل ومسن في يوم واحد.
في ذلك اليوم الأسود الحالك تمت تصفية 560 من الإناث، وتم دفن الجميع في مقابر جماعية بالجرافات، ومنهم من دُفِن حيًا وهو يتشحط بدمه.
ذهب إلى ربه وهو يشكو ظلم البشرية وطُغيانها ووحشيتها، وغدًا سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
نُفّذت معظم عمليات الإعدام ليلًا قبل أن تدفع الجرافات الجثث في مقابر جماعية، وشهد جندي فرنسي يُدعى “جان رينيه رويز”:
“إن بعض الجرحى من الرجال دُفنوا بينما كانوا على قيد الحياة، وإن الناس كانوا ينتحرون ليتجنبوا ألم قطع أنوفهم وآذانهم أو شفاههم من قبل الصرب، وكان كبار السن يُجبرون على مشاهدة الجنود يقتلون صغارهم”.
استمرت التصفية الجسدية والاغتصاب للنساء لثلاثة أيام، وكانت الإنسانية في إجازة (بينما أُطبقت فكا الرحى الإجرامية على المسلمين العُزّل).
وصف أحد الناجين مقتل الأطفال واغتصاب النساء الذي يحدث على مقربة من قوات حفظ السلام يقول: “لم تستطع أُمٌّ أن تُسكت رضيعها عن البكاء فأمرها جندي صربي أن تفعل، ولما لم تستطع؛ أخذ الصربي الرضيع وشق حلقه وهو يضحك متباهيًا. لقد كان المسلمون مذعورين إلى حدّ أن قتل العديد من الأفراد أنفسهم شنقًا قبل أن يقعوا في أيدي الصرب”.
تروي إحدى الناجيات من المذبحة قصة قد لا يُصدّقها بعض المدافعين الدائمين عن الغرب من بني جلدتنا، تقول:
“عشرات الجنود الصربيين أحضروا امرأة وجرّدوها من ملابسها وتناوبوا على اغتصابها ثم جاؤوا بطفلها ذي الأربع سنوات وذبحوه كما تذبح النعاج وملؤوا كأسًا من دمه وأجبروها على شربه”!
وتروي ناجية بوسنية تدعى “زمرة سيهوميروفيتش” قائلة:
“شاهدتُّ الجنود يأمرون صبيًا باغتصاب أخته التي لم تبلغ التاسعة من العمر، ولما رفض قتلوه شر قتلة. حدث هذا بجانب القاعدة الهولندية، وقد شاهدتُّ هناك عمليات رهيبة لقطع الرؤوس وأشخاص يُقتلون”.
وتكمل “زمرة” شهادتها المؤلمة:
“شاهدتُّ كيف قتل الصرب طفلًا في حوالي العاشرة من عمره، كان الصرب يرتدون الزي العسكري الهولندي. قُتل الصبي وهو بين ذراعي أمه، كان جسده لا يزال بين يديها ورأسه على سكين جندي صربي يقطر دمًا أراد أن يريه للجميع! كما شاهدت كيف ذبحوا امرأة حاملًا، رأيتهم يشقّون بطنها ويخرجون منها جنينين قبل أن يطرحوهما أرضًا ويضربونهما حتى الموت، لقد رأيت ذلك بأم عيني”.
الطفلة البوسنية “ألميرا” ذات الـ12 ربيعًا التي كانت تحتضن دُميتها كأي طفلة، جذبتها الأيادي المُتوحشة من بين يدي أمها التي غابت عن الوعي وهي تصرخ بجنون أعيدوا لي ابنتي “ألميرا”، تصرخ باكية متضرعة: “لا تأخذوني فعمري 12 عامًا”؛ لكن الإنسانية أصابها الصمم والعمى واستعمرها الشيطان.
يقول أحد الشهود أمام محكمة الجنايات الدولية من الصربيين الذين شاركوا في الإعدامات الجماعية في ذلك اليوم بأنه “عانى من تعرض إصبعه الإبهام من التخدير”؛ نظرًا للكم الهائل الرهيب من الإعدامات في ذلك اليوم!
ذكر شاهد عيان بوسني من الناجين من المذبحة أن بعض الرجال استسلموا لنوبات هستيرية جنونية وهم يرون أطفالهم يذبحون وتقطع رؤوسهم ونساءهم تغتصب…
لم ترتوِ الوحوش الصربية من دماء المسلمين البوسنيين، بل طاردوا الفارين من الجحيم عبر جبال البوسنة الوعرة لاستدراجهم ثم قتلهم ودفنهم، وما زالت آثار المجزرة المُروّعة التي تتحدى الفهم وتسكن الذاكرة البوسنية المعذبة ولن تغادرها أبدًا. فكثيرًا ما نسمع عن انتحار بعض الناجيين من مذبحة سربرنيتشا جراء تدهور حالتهم العقلية، وليت بعض قومي يُدركون حجم المأساة. وحقيقة أن عطور الأرض مجتمعة لا تستطيع تطهير أيادي قوات الأمم المتحدة الآثمة المجرمة.
الأمين العام للمنظمة الألمانية للشعوب المُهدّدة (تيلمان تسوليش) يقول:
“إن أوروبا العجوز تواطأت مع ما جرى في (سربرنيتشا) وفي تقسيم البوسنة إلى كيانين منفصلين”.
ثم يكمل تيلمان قائلًا: “على أوروبا التكفير عن خطاياها بمحاكمة المسؤول الأول عن المجزرة (ملاديتش) ومنح البوسنيين تأشيرات دخول حرة وإعمار البوسنة ومنحها عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي”.
من خلال عرض الماضي المؤلم، يُفتح الباب واسعًا على مجموعة من الأسئلة: كيف نتعامل مع ذلك الماضي الدامي؟
كيف نزرع الورد والوُدّ في غرفة الأشباح ببيت الذاكرة المُتخمة بالجراح؟
وهل يحقّ لنا نسيان يوم 11 من تموز؟
هل من المُمكن أن نبني سلامًا بمُجرّد الحُكم على القَتلة بالشنق أو الاكتفاء بحبسهم؟
وكيف ننقل الضحايا عند العالم المنافق وإعلام مُسيلمة المحليّ والغربيّ (من مجرّد أرقام إلى شخصيات من لحم ودم بأحلام وضحكات وحكايات وخيبات)؟
ثم نتساءل عن دور العدالة الدولية:
أين كانت؟
وما جدوى وجود منظمة الأمم المتحدة ومجلس الخوف والخذلان الدولي؟
هل كانت قادرة على منع المجزرة؟ ولماذا لم تمنعها؟
هل هي متواطئة؟
ما مصلحتُها؟
وهل تملك حقًا الوسائل لحماية حقوق الإنسان القادم وتقسيم العدل على الكون كما تدّعي؟

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..

إحسان الفقيه
2015

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
“قصة سربرنيتشا.. رواية عن الحرب على البوسنة”، إسنام تاليتش (طبعة دار السلام).
“سربرنيتشا.. المذبحة في وادي الموت”، عبد الرحمن عياش (موقع نون بوست).
“شيء بقلبي: النساء ضحايا الحرب في البوسنة وسربرنيتشا”، هدى جعفر (الحوار المتمدن، 11 تموز تاريخ تخجل منه أوروبا).
“صرخة من القبر.. سربرنيتشا”، فيلم وثائقي من إنتاج قناة BBC.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!