الشهيد سليمان الحلبي – إحسان الفقيه

0

من يدخل قاعة متحف «الإنسان» في باريس، ويرى بقايا عظام بشرية كأنها تطل على الزائرين من نوافذ التاريخ، ربما يأْتَلِق في عقله ما يرتبط باسم ذلك المكان من القيم الإنسانية.

لكن مع الوقت يدرك ذو البصيرة أن القيم الإنسانية يُهدر دمها على مذبح الفكر الاستبدادي الاستعماري الغربي، فيرى المُشاهد جمجمة كُتب على رفِّها: «جمجمة عبقري: ديكارت»، ويرى كذلك بجوارها جمجمة أخرى كُتب على رفِّها: «جمجمة مجرم: سليمان الحلبي».

سليمان، ذلك الشاب السوري، الذي لم يُعمّر في الحياة أكثر من 23 عاماً، تمّ إعدامه بأكثر الوسائل بشاعة، لأنه قتل قائد الاحتلال الفرنسي في مصر الجنرال «كليبر» بسكين سدّد بها طعنات نافذة إلى جسده، أثناء تجوّله بصحبة مهندِسِه، في قصر «الألفي بك»، الذي كان يُعدّه ليكون مقراً لقيادة الحملة.

سليمان الحلبي يُعتبر محطة من المحطات الكثيرة التي تُمثّل حالاً من النزاع الفكري حيال الاستعمار الغربي بين تيارين، الأول: تيار مقاوِم مناهض للفكر الاستعماري الغربي، وهو يُمثّل الشعوب التي طالما سعت – ولاتزال – إلى التحرير والتخلّص من الاستبداد، وهؤلاء يعتبِرون سليمان أحد رموز الثورة والمقاومة.

وتيار آخر يلهث وراء بريق الحضارة الغربية، ويُبرّر لها وحشيتها وجرائمها، ويلوي أعناق النصوص التاريخية، من أجل الدفاع عن النزعات الاستعمارية واعتبارها محطات تنويرية حضارية أفادت العالم الإسلامي العربي، ومعظمهم من الكُتّاب الذين يعتبرون أنفسهم «كونيّين» يتجاوزون الخصوصيات المحلية في الثقافة والمعرفة والفن. وهؤلاء بلا شك، يُصنّفون سليمان الحلبي بأنه مجرم معادٍ للإنسانية والمدنية والتحضر.

ذلك الشاب المسلم العربي الذي هو مجرم في ميزان العدل الفرنسي، يستوقفنا كونه سورياً، فما الذي يجعله يأخذ على عاتقه تنفيذ مهمة يعلم أنه هالك فيها لا مَحالة؟

حاول بعض المفتونين الغرب من الكُتّاب العرب تشويه نضال هذا البطل، والادّعاء بأنه فعل ذلك في مقابل تخفيف والي حلب الضرائب عن أبيه التاجر، اتكاءً على تحقيقات فرنسية أودع بها هؤلاء الكتّاب ثقتهم أكثر من الفرنسيين أنفسهم.

سندع جانباً تصريح الشاب في محاضر التحقيق بأنه جاء «مغازياً» في سبيل الله، وسنطرح اعترافات إخوته من الأزهريين الذين قُبض عليهم، والذين اعترفوا بأن الحلبي أفصح لهم بنيِّة الجهاد، لكننا بشيء من التفكير المنطقي نقول: أيُّ عاقل يُقدِم على مهمة تُفضي إلى الموت من أجل تخفيف الضرائب عن أسرته؟ من المؤكد أن الثمن لا يتفق بأية حال من الأحوال مع السلعة.

السياق الأقرب للقبُول، أن يكون التوسّط لرفع هذه الضرائب شيئاً يسيراً قدمته جهة التكليف لسليمان باعتباره عضواً في خلية مقاومة، ليس على سبيل المقابلة، ولكنه شيء طبيعي في مثل هذه التنظيمات.

لكن غاب عن هذه الذهنية المخطوفة ببريق الغرب أن المسلمين، قبل سقوط الخلافة العثمانية واتفاقات «سايكس بيكو» وتقسيم الأمة، كانوا يتعاملون بفكرة الجسد الواحد، بعيداً عن الجغرافيا، وهو أمر توارثه المسلمون منذ بزوغ فجر الرسالة المحمدية، التي تقضي بأخوّة المسلمين في كل زمان ومكان، ولم يكن سليمان سوى صنيعة هذا المنهج الأصيل.

وإننا لنتساءل عن موقف المسلمين في مصر، وغيرها من بلاد الإسلام والعروبة، من المجازر الوحشية التي ارتُكبت في حلب؟

لا جواب سوى القول إن هذه الخاصية قد أُهدرت، وهذه القيمة الأصيلة تبدّدت معالمها، فصار المسلمون أسارى الحدود التي رُسمت في الثقافات، تماماً كما رُسمت على الأرض.

عندما نطالع المصادر التي أرّخت لتلك الفترة، ككتاب «عجائب الآثار» للجبرتي، الذي عاصر الاحتلال، سنرى كيف كانت منظومة القيم الغربية تعمل في تلك الحقبة، وهذه نقطة أخرى فاصلة بين التيارين، فبعضهم أشاد بنظام المحاكمة التي نصبَتها القيادة الفرنسية، ومنهم الجبرتي ذاته، وعدد من الكتّاب المعاصرين في وقتنا هذا، غير أن المدقق لا يجد عناء في إدراك أنّ المحاكمة لم تكن سوى («شو» استعراض إعلامي، لبيان الوجه الحضاري لفرنسا، لكنها في مضمونها خلت من القيم الإنسانية.

وأول ما نُواجه به اللاهثين وراء الغرب، أن الوجه الحضاري لفرنسا كشف عن قُبحه في محاضر التحقيق، إذ ثبت أن سليمان الحلبي تعرض للتعذيب حتى يُدْلي بأقوال عمّن يعرف من أهل مصر بِنيّته في قتل كليبر.

وفي ذلك قال الجبرتي: «فلما أن كان المتهم لم يصدُق في جواباته، أمر ساري عسكر أنهم يضربونه حكم عوائد البلاد، فحالاً انضرب لحدّ أنه طلب العفو، ووعد أنه يقرّ بالصحيح، فارتفع عنه الضرب وانفكّت له سواعده، وصار يحكي من أول وجديد».

والعجب أن ترى مؤرخاً مثل الجبرتي يشيد بطريقة المحاكمة التي عقدها الفرنسيون من استجوابات ومحاضر رسمية وتوقيعات ونحوها، ويُعرض عمّا قام به الجنود من تنكيل بالمصريين بعد الحادثة مباشرة، بل يصف سليمان الحلبي بأنه أفّاق وأهوج.

بينما نجد هيرولد مؤرخ الحملة الفرنسية ذاته، نقل عن جاويش بالجيش الفرنسي وصفه لرد فعل القوات الفرنسية بعد مقتل قائدها، فقال، نقلاً عنه: «ساعة قتل كليبر اندفعنا إلى الخارج، فقتلنا بسيوفنا وخناجرنا جميع من صادفناه من الرجال والنساء والأطفال».

فإذا ما برّر هؤلاء أن ما فعلوه إجراءات أو ردود أفعال تحدث في كل الدول، انتقلنا إلى الحكم الجائر الذي أصدرته المحكمة في شأن من كانوا على علم بنية سليمان، إذ حكم عليهم بالإعدام لمجرد أنهم لم يبلغوا السلطات الفرنسية بعزم الشاب على قتل الجنرال، مع أن جلسات التحقيق كشفت أنهم لم يكونوا على ثقة بغرض سليمان، فاستبعدوا قيامه بالأمر، هذا من منظور العدل الذي يجب أن تضعه المحكمة في الاعتبار، لكنها أكّدت تواطؤهم وقامت بإعدامهم.

ثم تأتي طريقة إعدام سليمان ورفاقه، لتكشف مزيداً من قبح الوجه الفرنسي، فأما رفاق سليمان فحكم عليهم بقطع رؤوسهم وتعليقها على عِصيّ، ومصادرة أموال بعض هؤلاء المحكوم عليهم بالقتل.

على أن ينفذ هذا الحكم على مرأى سليمان، بمثابة عقاب نفسي، ثم حرْق يده اليمنى وهو حي، وبعدها يتم قتله بأبشع طرق العصر، وكأنها امتداد لوحشية «محاكم التفتيش»، بحيث يجلس المتهم على «الخازوق»، وهو عمود من خشب أو حديد، ينفذ في أحشائه فيمزقها، ويُترك حتى تُستنزف دماؤه، ثم يموت بعد ساعات بعد معاناة طويلة.

وبالفعل تم تنفيذ الحكم في منطقة «تل العقارب» في حضور الجنود الفرنسيين وجماهير الشعب المصري إمعاناً في إذلاله، وقتل روح المقاومة فيه، ليظلّ جسده بعد أن فاضت روحه، طعاماً لجوارح الطير.

ولن نستفيض في ذكر حملات التفتيش والمداهمات التي نفّذها جنود الاحتلال، ولم يسلم منها الجامع الأزهر، لدرجة جعلت بعض المشايخ – بصرف النظر عن تقويم فعلهم – طلبوا من القائد الجديد «مينو» إغلاق الجامع الأزهر، وتم بالفعل كما ذكر المؤرخون.

هكذا هي منظومة القيم الغربية، دائماً نسبية، فعندما يتعلق الأمر بالثورة الفرنسية، نجد رموزها يُنفذون أحكام الإعدام من طريق «المِقْصَلة»، من باب الرفق الإنساني بخصومهم، أما إذا تعلّق الأمر بغيرهم ظهرت ملامح تلك المنظومة على حقيقتها!

وجود جمجمة سليمان الحلبي إلى ذلك الوقت في فرنسا، ووصف صاحبها بالإجرام، يعكسان المنهجية الغربية التي تسعى لشيطنة المقاومة إذا كانت موجهة ضد أطماعهم الاستعمارية، وهي المنهجية ذاتها التي يتعاملون بها مع المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني.

وهو من جهة أخرى كشفٌ لـ«عوار» الأمم المتحدة، التي تنصّ قراراتُها على شرعية حقوق الشعوب في الكفاح، لكنها موازين الغرب والكيل بمكيالين، فلا عجب أن يُحاكم الثائر الحلبي بهذه الطريقة الجائرة حياً وميتاً.

إحسان الفقيه
قصة محاكمة
٢٠١٧

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!