بَينَ زُرقَتين

0

بَينَ زُرقَتين

على حافة الصخرة المرتفعة ، وأمام أمواج البحر الرمادية الهائجة ، والتي تكاد تتحد مع الغيوم الرمادية المثقلة بحبات المطر المتعبة ، كان واقفاً يتأمل قدره الرمادي المجهول ، حيث لا أفق ولاشمس غروب تنتظره ، ولا أسراب سنونو تحلق فوق ساحل البحر المتعرج الطويل .
كانت تقف خلفه ، على بعد ذراع تقريباً ، تخاف أن تقترب منه أكثرَ فتلمَسه ، فتثور روحه الهائجة أصلا ، فيسقط من أعلى ذلك الجرف الى قاع ذلك البحر الذي يتصارع فيه كل من اللونين ، الأزق والرمادي ، على صوت تشجيع الأمواج العاتية المتكسرة على الصخور الجارحة .
كانت تبكي بحرقة ، يتطاير شعرها في كل اتجاه بعد أن نسيته وراءها لتعبث به الريح الشديدة ، منذرة بعاصفة قريبة جداً ، وخاطفةً دموعها من عينيها قبل أن تستريح على خديها الشاحبين .

– هل تحملنا كل ما لاقيناه منذ البداية حتى نصل الى هذه النهاية ؟؟ أهكذا تكافئني بعد كل هذا الألم  ؟؟
– لم يعد لدي خيار آخر .. فليغفر لي الله ، ولتسامحيني ، وليسامحني أطفالنا .
– لكنك حلفت ألف مرة ألّا…
– اوووووه .. ألن نكف عن تكرار هذا الحوار العقيم .. لقد اتخذت قراري ولن أتراجع عنه ابداً ، فأرجوك أن لا تكوني عونا لمصائبي علي ، أتوسل اليك ..
– من خشيتي عليك ، أرجوك  ، لا تخاطر .. من أجل أطفالنا فقط . ألا تشفق عليهم ؟ ألا تتخيل كيف ستكون حياتهم إن أصابك مكروه أو ..
– لن يصيبني الا قدر الله ، فأنا أفر من قدره الى قدره ، ولامهرب لي منه أبدا .
– أتوسل إليك أن تسمعني لآخرة مرة ، فلتستدر الي قليلا ، ودع عنك هذا الرعب الرمادي المتقلب أمامك ، انظر الى عينيّ للحظة ، تفقدهما فقط ، ألا تسألني ان كانتا لا تزالان زرقاوتين كما عهدتهما يوما ؟
– دعيني من رومانسيتك الآن يا حبيبتي ، فالجو هائج ولن يصمد فيه معطف او مظلة ، وهو ليس مناسبا بالطبع لارتشاف القهوة وتصفح الجرائد .  أصغي الي جيدا ، سأسافر هذه الليلة بعد منتصف الليل غالبا ، ولن أذكّركِ بما أوصيتك به سابقا ، لكن الذكرى تنفع أحيانا ، لا تخبري أحدا حتى ارسل إليك برسالة ..
– ومتى سترسل ؟ أهي أيام  ؟ أسابيع ؟ شهور ؟؟ متى ؟؟ وماذا لو لم ترسل أبدا ؟
– لا أعلم بالضبط متى ، إننا وكما تعلمين سنكون في أيدي المهربين ، أي تجار البشر – كما يصفونهم – ولا نعلم بالضبط أين ستحط رحالنا في هذه الرحلة ، أفي جزيرة ، أو يابسة ، أو قارب نجاة أو ..
– أو الغرق ..؟؟
– أو الغرق ، نعم ، فكل الاحتمالات واردة ، فالأمر يستحق المغامرة .
فكّري فقط وتخيلي كيف سيكون مستقبلنا إن تمكنت من  تجاوز هذه البقعة الزرقاء التي تبدو الآن غاضبةً كقطة شرسة الى اليابسة التي تخفيها وراءها . تخيلي معي للحظات فقط ، كيف سننجو من كل هذه القارّة التي اختارها الألم والعذاب الى تلك القارة التي تلقب ب ” العجوز ” ، لكنها اختارت العيش بهدوء وسلام كسائر العجّز الذين يتهادون على إيقاع كراسيهم الهزازة بكل سكون وطمأنينة حتى يغمض الموت الرحيم أعينهم  .
أتتخيلين ؟ حتى موتهم ليس صاخبا ومتوحشا كموتنا ، بل هادىءُ ساكنٌ كسكون قبورهم المكسوة بخضرة الطحالب .
أتتخيلين كيف ستكون ألوان حقائب أولادنا ؟؟ ستكون ملونة بالوان مواسمهم الأربعة الحقيقية ، وسيُلقونَ بها عند عودتهم من مدارسهم في كل اتجاه فرحاً وبهجة ، ثم سيتعيدونها مرة أخرى ليكتبوا وظائفهم الصغيرة بين أريكتينا ونحن نتسامر في كل مساء .
لن أدعهم بعد الآن يحملون أوزاري الثقيلة في حقائبهم الزرقاء اللعينة تلك ، وأوزار كل تلك الأمم التي اتفقت جميعها ضدهم ، وسَخِرتْ منهم ببضع أحرفٍ بيضاء باردة نقشت على حقائبهم البائسة تلك ..
لن أودعهم بعد الآن الى مدارسهم ، ثم ألتقيهم بأعينٍ خائفة أمام الخيمة ، أو ألملم أشلاءهم التي ستلقي بها القنابل في كل اتجاه ، ثم أستدل عليها بحقائبهم الزرقاء المعلقة على بقاياها ، أو بحروف اللعنة التي لاحقتهم كل يوم ، وحملوها على ظهورهم الطرية .
لاتتوسلي إلي ارجوك ، فقد قَتلتُ تلك الرحمة في قلبي منذ زمن طويل ، أو ربما سجنتها حتى تتعقّل وتكون اكثر حكمة  ، ولن أتبع هذه المرة الا ما يمليه عليّ عقلي فقط .. وداعا أيها القلب ، وداعا ايتها الرحمة .. ألقاكما في الضفة المقابلة ..

– إذاً مادمت مصرّا ولن تتراجع ، فلتصغي إلي جيداً .
لقد أمضيت أكثر من عشر سنوات معك بعد أن تزوجتك بقدر من الله تعالى قبل اندلاع هذه الحرب ، فوعدتني – ان كنت تذكر – يوما ان نقضي شهر عسلنا في مكان أختاره أنا ، ولستَ أنت . فاختار لنا القدر أن نقضي بعد زواجنا بأيام قليلة شهر عسلنا متنقلين في عدة سيارات مكشوفة وهاربة وسط صراخ الأطفال والنساء والعجز ، وخُدعتُ بتلك الألوان والأصوات المفزعة التي ظننتها ألعابا نارية على جانبي الطريق الذي أضاع اتجاهاته ، ثم استبدلتُ ثوب عرسي بخيمة بيضاء صفراء فاقع لونها لم تسرني رؤيتها منذ أن نزلت فيها ، ولم أتوقع يوما أن يحتضن ذلك الهرم الهلامي الابيض المغبر في قلبه ثلاثة أطفال مع أبوين عاجزين تماما إلا عن الانتقام بإنجاب أطفال بريئين آخرين وقذفهم في هذه الحياة البائسة ، وملاحقة سيارات الإغاثة المتعثرة بحبال الخيام المترامية حتى الأفق .
ألا أستحق أن تنظر الى عينيّ ؟؟ ألا ترى كم هما متعبتان ؟؟  هل كلفت نفسك بأن تسألني بماذا أحسست حين انتُزع ثوب عرسي مني انتزاعاً ، ثم استُبدل بذلك الكفن الذي ترفعه عشرة أعمدة فوق رؤوسنا خوفا من أن يلتف حول أجسادنا عند أول عاصفة ؟
آآللهٌ أَمَركَ بذلك ؟؟
إن كنت تظن نفسك نبياً معصوماً فافعل ما بدا لك  ، فالله لن يضيعنا . لكنك بشر ، من لحم ودم ، وربما تتكلل مغامرتك بالنجاح ، فتجد أخيرا تلك البلاد التي طالما حلمت أن تكون في ربوعها وقد هَيئت لك كل أسباب التعلق بالحياة .
لن تنسانا في البداية ، أعلمُ ذلك جيداً ، فسترسل لنا من المال ما يكفينا ويزيد ، لكن الزمن كفيل بتغيير كل شيء ، وقلوبنا من تلك الأشياء .. ،  فهذا الجرف الذي تقف على حافته الآن لم يكن قاسيا كما هو الآن ، وأخشى من أن يعمل هذا الزمن عمله وينحت في قلبك حتى يجعله أملسَاً ككرة قاسية ثقيلة لا يخترقها شيء ، ولربما ستعشق ذلك الهدوء والسكون الذي ذكرته منذ قليل ، وذلك الكرسي الهزاز الذي يهذي بصمت ، فتُفضّل الوحدة والعزلة على الصخب والضجيج الذي  سيلحق بك يوما .. إن شاءت الأقدار .. 

وحتى لا أنسى .. اريد فقط أن اذكرك بأنني سأبقى هنا وحيدة .. بالطبع مع أطفالي ، فهم سينعمون برعايتي مادمت حية ، لكنني سأبقى وحيدة .. وحيدة في مشاعري وحزني وهمي وآمالي ، وستفضح عيناي الزرقاوتين حزني وكآبتي ، وربما ستلتقي بها يوماُ عينُ أو أعينُ عطف مواسية ، قد تتمكن الشمس من إطفائها في النهار ، لكن القمر ونجومه سيعجزون عن إطفائها في ليالي الشتاء الطويلة القاسية ، وستحوم هذه العيون من حولي وهي تقدح كأعين الذئاب الجائعة ، فأعيش في غمرات من الخوف والرعب بكل تفاصيله حين تتمدد حبال الزمن والألم ، فتتسع فراغاته الضيقة ، فأسقطٌ كالفريسة العاجزة عن فعل اي شيء ، فالكل سينهشني حيةً دون أن يكلف نفسه حتى بقتلي ، ولربما سأصبح عاجزة أيضا عن قتل نفسي أمام أعين أطفالي الذين تركتَهم ورحَلت . .

هل تفهمني ؟؟  لا أريد أن أخيفك أو أزرع بذور الشك في صدرك . لكن الزمن قد يحولنا مما نحن فيه الى ماسنكون عليه في الغيب يوما ، فهلّا أخبرتني شيئا عن ذلك الغيب  ؟؟

ذلك الشيطان الملاك ” العابد ” التقي ، والذي عبَدَ الله ألف ألف سنة، ثم عصاه ..
ذلك النبي الكريم ، أبوك ، كما هو أبي .. الذي عصى الله بعد أن هداه وعلمه ، كان الزمن كفيلا بأن ينسى ذلك الوعد الذي قطعه ، فوسوس له الشيطان ، وزخرف له عمله ، فهبط الى الأرض ، تماما كما كتب له قدره . .
– كفى بالله عليك … كَلماتُكِ الجارحة تثير نار غيرتي القابعة تحت أغطية قلبي ، وتشوش عقلي بدوامة من إشارات وألوان عاصفة أشعر بها وبالكاد أراها لأول مرة ، فماذا تنتظرين مني ؟؟
–  أن تنصت الى ما تراه ، وان لم تكن تسمعه .
– تباً لَكٌنّ .. صويحباتٌ يوسف .
– بل تبّاً لأنانيتك ، وأضغاث أحلامك ..
…………………………………….  ..  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!