السِّرّ

0

                               السِّرّ

لم يعد هناك المزيد من الوقت . إنهم يقتربون منا ، وسرعان ما سيكتشفون السر . لابد أن أفعل شيئا ، لاحل إلا باخفائه في مكان ما لا يمكن الوصول اليه أبداً . إذا فلأقم بذلك سريعاً فلا مجال للتفكير ، فقد فات الأوان .
كانت الشمس تلوح بالغروب ، فتبعها كل شيء بالاستعداد للرحيل واللحاق بها . كل ملامح ذلك النهار الطويل كانت قد بدأت بالرحيل ، وبدأت رسائل الليل بالوصول تباعاً لتتحول الى جنود امتدت ظلالهم الى ما لا نهاية ، وراء الأشجار والجدران والصخور . وأشرقت ستارة من الحزن من الأفق المقابل للغروب تعلقت فيها آلاف من خطاطيف الخوف المتهيئة للانقضاض.

أخذت السر من الصندوق الخشبي الذي أخفيته في غرفتي ، كما أخذت بعض الأكياس والألبسة القديمة من خزانة الثياب لأحفظه داخلها . كان الجميع قد غادروا المنزل ، ربما منذ أكثر من شهرين أو ثلاثة ، فأخبار الحصار القريب أفزع الجميع وأجبرهم على الهرب قبل وقوعه ، فالموت سيأتي تدريجيا حتى يطبق بيديه حول رقبة كل شخص ، حتى أنه سيتسلى في خنق الناس لأيام ، وربما لأسابيع طويلة .
كل شيء كان مفزعاً .  اقتراب المغيب ، والظلال الطويلة ، وخشخشة القنافذ المستيقظة على وداع آخر خيوط الشمس  . كل هذا السكون المخيف كان يحاول انتزاع قلبي بضرباته القوية والسريعة ، وأنا أهرول باتجاه إحدى أشجار الرمان المحاذية لساقية الماء .

” سأدفنه هنا ، فلن يخطر لهم أن يبحثوا في هذا المكان “
لا أعرف كيف قادتني قدماي الى هذا المكان ، فلم أفكر فيه أبدا ، فلقد نهرتني لحظات الخوف منذ أن امسكت هذا السر فأسلمت نفسي لقدميّ ليسوقاني الى هذا المكان ، هنا بالقرب من شجرة الرمان ، حيث بدأت جدار ذاكرتي بالتشقق لتتسرب منها بعض الأنوار المبهرة ، ثم تخفت شيئا فشيئا لتظهر صورة كنتُ أتوسط فيها والديّ أثناء العمل في الحقل ، وأنا أحمل غصن رمان صغير ، وتشير اليّ أمي بإصبعها نحو ساقية الماء ..
لم أتردد في النقر على تلك الصورة التي سَرَّها أن أحييها كمقطع مرئي كان قد احتفظ بنفسه في إحدى ملفات الذكريات البعيدة .
” أين وجدته يا صغيري ؟ إنه غصن رمّان صغير ، مثلك تماما .. لمَ لا نزرعه هناك بالقرب من الساقية ؟ “
حفرنا بأيدينا حفرة صغيرة ربما تجاوز عمقها شبرا أو اكثر ، وكان لون التراب بنيا مائلا للحمرة ، فغرسنا غصن الرمان وأَهَلْنا التراب حوله ، وشجرة الجوز ترى وتسمع كل شيء ، ثم سقيناه بماء الساقية بكفينا العاريين ، وتركناه في كفالة الزمن الذي اصطحبه معه ليمضيا معاً ، وتركني امام هذه الصورة الحية الآن ، متأملا بعينين لا تجدان الا ماضيا جاهداً في السؤال عن أحوال الغيب الذي صار حاضرا .  حاضر سيعرض صورة لي تكاد تكون جامدة ، وأنا أحمل السر بيديّ ذاهلاً أمام شجرة الرمان التي ذُهلت هي الأخرى بأغصانها العارية والمتشابكة ، ومستعدةً لجرح وخدش كل من يحاول تجاوز قصتها .

اعادتني أصوات طلقات الرصاص المقتربة في لحظة الى صوت الحوار العالي الذي كان يدور في رأسي  منذ فترة قصيرة :
لماذا في هذا المكان ؟ ما الذي أتى بك الى هنا ؟ أهو آمن ؟ أهو خيارك الأخير ؟؟ ثم ماذا بعد ذلك ؟

في الحقيقة ، لم يكن ما جرى حواراً ابداً ، بل رشاشاً من الأسئلة المتلاحقة والتي لم تصب أي جواب ، تماما كتلك الرشقات المضية الآثمة التي عاكست خطوط الشهب البريئة في قبة السماء .
كنت أحفر بأصابعي وأظافري كالمجنون ، أنثر التراب في كل اتجاه كانني احاول انقاذ نفسي بعد أن دُفنت حياً .
كنت وحيدا تماما في الصورة الأخيرة التي التقطتها شجرة الجوز ، أدفن السر دون أمل في قاع الحفرة محاطاً بأمزجة من ألوان الخوف اللولبية والمتموجة الخانقة .
أسلمت السر للزمن الذي فررت منه سريعا بعد ان انتهيت دون اي التفات ، مسرعاً وهاربا من كل شيء ، فلعلي أسبق الزمن فأجد شجرة الجوز لأستريح تحتها وقد احتفظت من أجلي بصورة يمكن أن أستعرضها كشريط ربما أحييه من جديد ، ليحكي لي ما لم أعلمه من حكاية السر بعد أن دفنته تحت أغصان شجرة الرمان العارية .

………………………………….

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!