الجربان

0

                                  الجربان

كان يمشي بتسارع وحماس ، حتى كاد يسلم قدميه للركض على الرصيف المثقل بخطوات مستقرة لعمال وموظفين وطلاب ، كلّ الى وجهته وعمله . قابله أحد أصدقاء الدراسة بالأمس ، وأخبره أن أوراق نتائج مسابقة التعيين ستعلق اليوم على جدار مديرية التربية في الساعة الثامنة صباحا .
كان سعيدا ومتعطشا لتلك الوظيفة على الرغم من علمه بأنها ستقذف به في أقصى بقاع البلاد . لكنه كان راضيا ، بل في قمة الرضا والطمأنينة والقبول ، فكم يحتاج أن يرتاح من اصوات خبطات تلك الأحذية العسكرية الثقيلة البائسة ، والتي طالما تآمرت ضده مع تلك الساحة الاسفلتية السوداء تحت شماتة شمس الصيف ..
يحتاج أن يرتاح من وجوه أولئك الضباط الذين حققوا أحلامهم البازلتية في إذلال العسكري الاجباري ، و ” كسر نفسيته المدنية ” بالشتم والسباب وإطلاق بدع من الكفر الملون ، ثم حمل مغامرتهم مع العساكر ككيس قمامة ، وإفراغها أمام زملائهم من الضباط او صاحباتهم في سهرات المجون و الهوى اليومية  ..
كان كل ما اكتسبه من عسكريته التي استمرت لمدة سنتين هو الركض هربا من أعين الضباط ، وطريقة أداء التحية أمامهم  :
” ترفع الرجلَ زاوية قائمة .. وتخبط بكامل قدمك على الأرض مفهووم ؟” 

كانت رؤوس الخريجين المتدافعين تبدو من بعيد وهي تتمدد قدر استطاعتها نحو الأوراق الملتصقة ،احيانا الى جهة اليمين وأحيانا جهة الشمال أمام الجدار الأصفر الباهت لمديرية التربية ، فازدادت سرعة خطواته مع ضربات قلبه ، ووصل أخيرا الى المكان ليجد محشرا من الشبان والفتيات . كانوا متفائلين جميعا – تماما كما في أيام الدراسة –  يتباداون الاحاديث تارة ، ويشيرون بأصابعهم تارة الى بعض الأوراق الملصقة على الجدار ، ثم يعودون لاكمال أحاديثهم التي تبدو شيقة .
لم يكن هناك نية لأي منهم بالتحرك من مكانه ليعطيه مجالا كي ينسل من بين هذه الجموع ويصل الى الجدار اللعين ، فالكل مشغول بالحديث فقط لمجرد الحديث ، كما أن هذا اللقاء النادر الوقوع بين الأصحاب والأحباب  ربما يكون هو الأخير في حياتهم ، حيث ستحدد هذه الأوراق الملصقة على هذا الجدار مصير ووجهة كل ” استاذ ” أو ” آنسة ” ، ثم سيودع كل منهم الآخر ليجهز حقيبته ونفسه للسفر الى احدى مدارس المحافظات النائية ، ليس في ضواحيها بالطبع ولا في قراها .. بل في مدارس يقال عنها أنها تظهر في الصحاري كالسراب ، وربما سيستمر في التعليم فيها لمدة خمس سنوات على الأقل ..
ها هو ثانية أمام جدار أصفر آخر ، جدار مديرية التربية ، بعد ان كان قبل سنتين تقريبا يقف أمام حائط مشابه في شعبة التجنيد .. يقرأ ورقة ملصقة على عمود هاتف مائل لم تجد لها مكانا في الجدارالذي لم يعد يتسع للأسماء أخرى . كان فيها اسمه واسم القطعة العسكرية التي سيتم نقله اليها من أجل الفرز فيما بعد.
لم يختلف المشهد كثيرا ، سوى أن رائحة البول في أسفل الجدار الرطب وزواياه كانت أقل نسبيا من تلك الروائح المنتشرة كيفيا في شعبة التجنيد ..

– لكن من تكون هذه ؟؟ آه  ..إنها هي ! .. بل إنها تشبهها كثيرا ..يا الهي كم تشبهها .. وماذا لو لم تكن هي ؟؟   بل انها هي حقا !! ثريا .. انها ثريا !! يآه كم تغيرت هذه الفتاة ..
لكن لم لا أقطع الشك باليقين ؟؟ كفاني خجلا طوال اربع سنوات ، سأذهب اليها لأتأكد وليحصل ما يحصل  ، فهي لن تعضني بالتأكيد ..
– مرحبا .. أَلستِ الآنسة ..
– ياه أهذا أنت ؟ ماذا حلّ بشعرك ؟
– نعم انا ههه  .. ، تعرفين .. انها العسكرية ..
– يا إلهي كم تغيرت .. أصبحت مضحكا قليلا .
– ههه ..  نعم أظن ذلك ..كلهم يقولون نفس الكلام.. لكن ماذا عنك ؟ هل ..؟
– آه نعم ، إنه خاتم الزواج ..
– تزوجتي إذا ..
– نعم ، منذ سنتين تقريبا ..
بدأت الفتاة بالحديث بحماس عن مشاريعها ومغامراتها بعد تخرجها من الجامعة ، وبدأ صوتها ينخفض شيئا فشيئا حتى اختلط بعشرات الأصوات من حولها ، ثم تحول الى طنين كطنين نحل لا ينقطع في أذنيه ..

ترى ماذا الذي أصابه  ؟ لماذا شعر أنه تفتت الى أجزاء وهو ينتصب بجسده أمامها عينيها مباشرة .. تماما كالجدار ؟ لماذا ازدادت هذه الفتاة جمالا وألقا في حين لم يعتبرها يوما فتاة تحمل اي مسحة من جمال ؟
كان قد تعرف عليها أمام مكتبة الجامعة ، حين طلبت منه تصوير بعد الأوراق من دفتره الصغير الذي خصصه لكل شيء حتى تلك التفاهات والخربشات التي كان يكتبها فيه، ورسومات المكعبات التي اعتاد أن يرسمها على الهوامش كلما شرد في محاضراته .. لم يكن يعرفها من قبل ، لكنه كان يصادفها في كل مكان ، في المحاضرة والدرج والممر وباب القاعة وعند الانصراف ..
كان يتحاشى النظر اليها فقط لأنها ليست جميلة ، بينما كانت تحاول اصطياده في كل زمان ومكان ، ربما لأنه يبدو فقيرا .. مثلها تماما ، فسترة الجوخ الطويلة التي يرتديها والتي أهداها إياه أحد الأصدقاء كانت لا تزال تحبس منذ سنوات رائحة دخان وسعال من سهرات شتوية يومية كان قد قضاها مع أصحابه المشردين ، كما أن اصوات قهقهاتهم وسبابهم تكاد تسمع من أكمام تلك السترة وقبتها المهترئة ..
أما هي ، أو ” ثريا الجربانة ” كما سماها بينه وبين نفسه اشفاقا عليها، فكان لها وجه مدور ناعم صغير ، وعينان صغيرتان ، وأنف صغير ، وشفتان صغيرتان ايضا ، وجسد نحيل جدا .
كانت تبدو كطفلة حمقاء بتصرفاتها الغبية وحركاتها السريعة . تنفعل بلا مبرر ، وتضحك بلا سبب ، وتتحدث دائما في التوقيت الخاطىء .. وتتعثر كل يوم أثناء المشي ..
انها الآن تقف قبالته ، وتحدثه بسيل من التفاهات خلال سنتين من الغياب ، لكنها تبدو مختلفة . في الواقع لم تختلف كثيرا في شخصيتها ، بل فقط في أصبعها الذي صار يزينه الان خاتم جميل ، وبطنها الذي انتفخ ككرة صغيرة .. ربما بسبب الحمل .
كان صوت الطنين يخفت شيئا فشيئا ، وبدا صوتها الحاد يرتفع ايضا ، حتى عادت لتتشكل أمامه بصوتها وصورتها معاً ، وهي لاتزال بنفس السوية من الحماس تصف له وتشرح كيف استطاعت النجاة من امتحانات السنة الأخيرة بأعجوبة ، وكيف اعجب بها أحد التجار في السوق ، ثم تقدم لخطبتها بعد أن اغرق أهلها بالهدايا والأموال ..
كانت تبدو سعيدة وراضية كأي عينة من النساء “البلديات” في أي شارع من شوارع المدينة ..
أخبرته أيضا بعملها المسبق بقرار تعيينها في مدرسة تبعد عن منزلها خمس دقائق فقط .. طبعا بفضل زوجها التاجر .. فعلاقاته متشابكة مع اغلب ضباط الشرطة و المسؤولين ..
– وأنت ؟ أين عُينت ؟
– انا ! لا.. فلقد أتيت للتو ..  سابحث عن اسمي الآن .
بدأت بمساعدته في البحث عن اسمه في الأوراق التي اوشك بعضها على السقوط ..لكنه تراجع قليلا الى الخلف متظاهرا بانشغاله باتصال هاتفي ..

تأملها وهي تبحث بكل حيوية وتفاؤل عن اسمه بين مئات الأسطر في تلك الأوراق المعلقة..
كانت كطفلة مشاغبة تقفز من ورقة الى أخرى ، من اليمين الى اليسار ، ترفع جسدها النحيل بأطراف اصابعها بكل اصرار حتى تجد اسمه ومكان تعيينه …

– اه ..لقد وجدته .. وجدته اخيراً.. صاحت بأعلى صوتها .. لكنه لم يكن بالجوار ..
التفتت الى الوراء لتراه خلف الجموع التي بدأت بالازدياد ، يدخن سيجارته الاخيرة المتبقية في علبته التي ألقاها لتوه .. ثم صاحت :
– سمير الجربان !! سمير الجربان ..
– التفت اليها وهي تنظر اليه مع مئات الوجوه التي صوّبت جميعها باتجاه عينيه  ..
– ألف مبروك .. تم تعيينك في المنطقة الشمالية الشرقية ، في قرية الزوبعة ..

………………… تمت ……………………

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!