قصص اللجوء : الصور

0

قصص اللجوء

                                       الصور

كان يجلس الى جانبي في مقعد الحافلة طوال الطريق .. يكاد خده الذابل يلتصق بشباك الحافلة التي اطمأنت في طريقها ، وذلك بعد أن نجحت في الخلاص من كتل كبيرة من الأبنية العالية التي صارت خلفها ماضيا لا يرى الا كوهم أو سراب من خلال دخانها الذي خلفته .
كانت أنفاسه المتعبة تستريح على برد الزجاج كل في كل ثانية على ايقاع خافت كنت أشعر به ، لكن عيناه كانتا تحدقان في الأشجار المسرعة على جانب الطريق وأغصانها المتدلية التي كادت تلامس زجاج الحافلة ، فيرى بعينيه ما يراه ، دون أن يبوح لأحد باي شي ، ربما بوسوسة لقلبه فقط .

هممت أن أسأله عن أي شيء ، حتى أعيده الى ماكان عليه قبل مدة لابأس بها من الزمن ، لكنني وفي آخر لحظة آثرت الصمت ، ثم اسندت رأسي الى المقعد لاعيد قراءة عينيه الغارقتين في الحكاية وسط كل هذا الضجيج من الصور العابرة .

حاولت أن أتأكد أن تعب تلك العينين نصف المفتوحتين تحملان سكينة وطمأنينة بعد النجاة من الوطن .
تلك الابتسامة المرتسمة على شفتيه .. ربما لم يشعر بها عند تأمله لكل هذا الشريط السريع والممتد امام عينيه .
تلك اللامبالاة التي انتظرها  .. ربما منذ وقت طويل جدا..
وربما كان يحاول ان يمسح بعضا من أحزانه بأصابع تلك الأغصان الممتدة نحوه .
فكرت في حقيبته التي وضعها في باكاج الحافلة قبل الركوب .
كانت ذات لون زيتي حزين كئيب ، وحيدة مثله تماما .
أخبرني في احد الأيام بأنه قام بشرائها من احد الغرباء في سوق الحرامية  ، وأنها رافقته طوال فترة العسكرية التي استمرت لسنتين كانتا أطول سنتين اقطتعن من حياته.

الآن ، وفي هذه اللحظة ، هي معه أيضا ، ترافقه في غربة لا تفهم بلغة الأعمار ، وتسير برفقته حيث يسير ، تخفي بداخلها بعض الملابس التي لم تختلف  كثيرا عن تلك في فترة العسكرية ، وربما هي لاتعرف – مثله تماما – أين ستكون الوجهة التالية ، وهل ستفارقه بعد هذه السنين بطريقة ما ؟ ام أنها ستبقى مخلصة له ، وستلتصق بخاصرته كما عوّدها دائما عند كل نزول من إحدى الحافلات ، وانطلاقه في احدى الدروب التائهة .

ربما تخالطنا نفس المشاعر أحيانا ، فما الذي يميزني عنه اذا ؟
ربما الفرق بيننا هو أنه غائب في أحلامه وخيالاته البعيدة ، يخوض فيها لفترة حتى يصحو مثلي لبعض الوقت ، فيلتفت حوله ليجدني مثله تماما وقد غصت في بحر من الماضي ، لعلي أجد صيدا من صور منثورة في قاع ذلك البحر ، فاسلي نفسي بها حتى أصل الى ذلك المجهول الذي انطلقنا من أجله سوية ..

في كل صورة أتلقاها من هذا الطريق الذي لم ينقطع ابدا عن كل ما مضى ، أعثر على صوت  ، على رائحة كنسمة خفيفة تفر خائفة كفراشة من كتاب يُغلق فجأة  ، فأصوغ لحنا من مقام أختاره أو يختارني ، فألفه بهذه الصورة بكل أناة ، ثم أحتفظ بها بعد ذلك كتذكار في حقيبة سفري ، فاخرجها لأشتم رائحتها وأسمع صوتها ، ثم اعيدها الى مكانها حتى لا تموت أو تخاف من صعقة كلمة من الحقيقة .

لم تتضح تلك المشاعر المختلطة حين ودّعنا كل اولئك الذين مضوا بعيدا ، فالبكاء والضحك والصمت كانوا متشابهين جميعا. لكن ربما كان علينا أن نبتعد في السنين والأماكن ما استطعنا ، حتى نرى الصورة بشكل أوضح ، فنختار لها شعورا مناسبا أو نصوغ حولها لحنا ننتقيه من جداول المقامات . 

كنت صافنا عندما التفت الي فجأة بابتسامة صغيرة معاتبة ، أسرّت لي بأنه كان ينصت الى أفكاري ، لكنه لم يرغب لحظة بمقاطعتها ..
وافقتُ تلك الابتسامة الحكيمة بابتسامة حائرة ، فأطرقت رأسي لبرهة وأردت أن أقول شيئاً  ، لكنه أنقذني من بضع كلمات كنت على وشك أن ابوح له بهن ، فقال : 

– انها استراحة .. افلا ننزل قليلا يا صديقي؟؟

                          ……………………

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!