زيارة ..

0

                                   زيارة

ربما شعر أغلب طلاب الصف السابع باضطراب استاذ حصة التربية الاسلامية في الدرس الأخير من يوم دوام طويل ، فقد بدا على وجهه الاستياء والضيق والقلق الشديد ، حيث كان ينقل ناظريه بين السبورة والنافذة المطلة على ممر الكوريدور ، فأدركنا أن هناك زوارا من ذوي الشأن سيحضرون الى صفنا ، ربما موجه أو مدير .. لا بأس فالطلاب يحبون المفاجآت دائما ، وخصوصا في الحصص الأخيرة من الدروس ، حيث يمكنهم قتل مللهم المتراكم طوال اربعة دروس عصيبة من الرياضيات والعلوم والفيزياء والتربية الوطنية .

أنهى مدرس التربية الاسلامية كتابة أهم فقرات الدرس السابق على السبورة بطريقة سريعة ومتوترة ، ووضع الطبشورة على الطاولة بدلا من مكانها المخصص في حرف السبورة ، ثم مرّ علينا بنظرة غريبة وقد تلون خداه الأبيضان تحت شعر لحيته الطويلة بلون دموي يشير الى خيفة أوجسها في نفسه ، وامر عصيب يرجوا السلامة منه  .

–  سيحضر الينا اليوم ضيوف من فرع الحزب ..  فآمل ان تلتزموا الانضباط والصمت ، وعدم التحدث الا عندما يُطلب منكم ذلك .
كما ترون ، فقد كتبت فقرات الدرس الماضي لأسهل تفاعلكم في الدرس فيما إذا سألكم الضيوف اي سؤال متعلق بموضوع الدرس وفقراته . أين احمد ؟؟ .. وخالد أيضا ؟؟ ها  ! جيد انكما هنا ، أريد منكما في هذا الدرس نشاطا استثنائيا وحركة ومشاركة من باقي الطلاب ..مفهوم ؟
– نعم يا استاذ ..
– وأنتم !..  الجالسون في المقاعد الخلفية  ..  اياكم أن ت …

كان الاستاذ قد غفل عن مراقبة الممر في هذه اللحظات ، ففُتح باب الصف بقوة وبشكل مفاجىء ودون استئذان  ، ليدخل الموجه في المقدمة  ويصيح بأعلا صوته  : ” قيام ” ، وهو لا يزال ممسكا بمقبض الباب بيده اليمنى ، والعصا الصفراء الطويلة بيده اليسرى .

دخل أربعة من الرجال يرتدون بذلات رسمية رمادية ، تلونت وجوههم باللون نفسه تقريبا . لم يبتسموا حين دخولهم ، وأشار أحدهم الى مدرس الاسلامية بيده المصفرة أن أكمل الدرس  ، وبدأ الآخرون بالسير بين المقاعد غير مكترثين بكلام الاستاذ الذي بدا عليه الارتباك ، وكأنهم على علم مسبق بكل ما سيقوله.. ..

–  ” إذا فدرسنا اليوم ايها الطلاب هو ” المساواة ” ، فقد ساوى الاسلام بين المسلمين جميعا ، فلا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى كما أخبرنا رسولنا عليه الصلاة والسلام ، وقد تجسدت المساواة في الاسلام ب… 
كان الرفيق ياسر يقف على المصطبة أمام السبورة ويتأمل بعينيه الصغيرتين وجوه الطلاب لا لشيء ، وانما ليستدل على آباءهم من خلال ملامحهم البريئة ، فهو ابن هذا الحي وربيبه  ، ويعرف أغلب رجاله بل كلهم حتى نساءه ، ولن يصعب عليه ان يتعرف على والد والد أي طالب بمجرد إجراء مسح بعينيه الصغيرتين على وجهه .. فأدار ناظريه فيهم ليمارس هوايته التافهة والمعتادة ..

أومأ باصبعه الى خالد الذي كان يجلس في المقعد الأخير ..
– انت ولاااك .
ارتبك خالد واستدار خلفه ، فتذكر اثناء استدارته أن جدار الصف كان خلفه مباشرة ، فنظر الى وجه الرفيق ياسر دون أن يجد مفرا من المواجهة الحتمية .
– أنا ؟!
– اي انت ، وهل أكلم الحيط يلي وراك ..
انفجرت بعض الضحكات الخافتة والمكتومة من أفواه بعض الطلاب التي زادت من تلبك وقلق خالد .
– قف على حيلك يا ولد ..
وقف خالد سريعا فاقدا لكل الأحاسيس ، ثم شعر فجأة بأن كل الأصوات صمتت من حوله ، ولم يبق معه الا صوت ضربات قلبه السريعة التي كانت تعرقل تركيزه وتخلط احاسيسه  .

– وين صار أبوك ولاك ؟ ألست ابن عبد الرزاق .. الأستاذ  ؟
– نعم نعم استاذ .. أبي .. انه يعمل الآن في الحقل وتربية الأبقار . .
– إذا حسناً فعل …
فالتفت الى الضيوف الآخرين الذين كانوا برفقته وهو يومىء برأسه بالرضا والقبول ،  يحدثهم بعينيه وحاجبيه بأن هذا الأمر هو ما كان يجب أن يحدث ، وأن نبوءته لا تخيب ولم تخب يوما .
أما الباقون فقد أومؤوا برؤوسهم أيضا بالموافقة على حنكة وحكمة الرفيق ياسر ، حيث لا مكان لأشخاص مثل ” عبد الرزاق ” صاحب الأفكار المعادية للحزب بين صفوفهم  .

كان الأستاذ عبد الرزاق قد أُجبر على الاِستقالة من المدرسة قبل سن التقاعد ، فكان عاجزا عن تحمل الزيارات المتكررة للرفيق ياسر أو ” السحلية ” كما كان يسميه الى المدرسة ، فكان يصارع مشاعره ويحاول كبتها بصعوبة وهو يستمع الى صوت ذلك الصديد الذي كان يتسرب من فم الرفيق ياسر كلما اقتحم صفه ، وكأنّ الرفيق ياسر كان قد علم من بعض الاساتذة الرفاق المخبرين ان الاستاذ عبد الرزاق لا يطيق وجوده ولا خطاباته إطلاقا ، بل ربما كان يفضل سماع نهيق حمار جده في ضيعته عوضا عن صوت ” الرفيق ياسر ” الذي يعتبره أنكر من صوت ذلك الحمار المسكين  .
كان خالد يعلم ذلك جيدا ، فكلما ظهر وجه الرفيق ياسر في نشرة الأخبار المحلية كان والده يستجمع ما استطاع من اللعاب في فمه ليبصقه في وجه الرفيق ياسر عندما ظهوره على شاشة  التلفاز ، ثم يطلق ضحكة هستيرية يضحك منها كل الجالسين عرفوا أم لم يعرفوا سبب كرهه لهذا الرفيق .

– كما تعلمون يا رفاق .. أن الانتساب للحزب هو سلاح بحد ذاته .. فمن كان عضوا نصيرا للحزب كأنما ملك سلاحا فرديا خفيفا ، كالمسدس على سبيل المثال ،  ومن يترقى الى العضوية العاملة فهو كمن يملك رشاشا أو قاذف أر بي جي .. أما من يستلم موقعا قياديا كالرفيق ” رستم ابو الهدى ” –  الغني عن التعريف طبعا  – فكأنما امتلك مدفعا أو دبابة أو حتى طائرة حربية ..
الحزب يا رفاق … هو طريق الخلاص والنجاة .  والطليعة الثورية هي من تمثلكم ، وتأخذ بيدكم الى بر الأمان والمستقبل الزاهر ..
– أشار مدرس التربية الإسلامية الينا بالتصفيق .. فصفقنا بقوة حتى انتهى الاستاذ من تصفيقه  ..
كان الرفيق ياسر يمعن بناظريه يمينا ويسارا في وجوه الطلاب جميعهم بلا استثناء ، لكنه عيناه كانتا تتسمران في وجه خالد كلما انهى جملة من جمله الطويلة ، وكأن المقصود والهدف النهائي هو خالد ، بل تحديدا ابو خالد … عبد الرزاق .. ذلك الاستاذ المتمرد والخارج على قوانين الحزب ونواميسه المقدسة ، والكافر بعقيدته ونظرياته ” الضراطية”  كما كان يصفها أمام أصدقائه المقربين ..
انهى الرفيق ياسر كلامه ، ليتقدم من خلفه الرفيق سليم ويؤكد على ضرورة دفع الاشتراكات الحزبية قبل آخر الشهر والا سيفصل الطلاب من الحزب ، وسيصعب عليهم العودة للانتساب من جديد ، وسيتعرضون للاستجواب والتحقيق ، وربما تكون عودتهم ضربا من المستحيلات ، وسيفقد المفصولون أرقامهم الحزبية التي ستفيدهم لاحقا في كل الامور التي تخص حياتهم المستقبلية ، حيث سيكون وجود الرقم الحزبي شرطا لدخول أفرع عديدة من الجامعة حتى كلية الشريعة .
همس الرفيق ياسر في اذن استاذ التربية الاسلامية ببعض الكلمات ، وبدأ الاستاذ بهز رأسه بالموافقة حتى قبل أن يفتح الرفيق شفتيه بالهمس ، ثم قطب الاستاذ وجهه بعد ذلك فجأة  ، وانتصب في وضعية الاستعداد واضعا ساعديه على جانبيه بانتظام  :

– قيام يا رفاق ..! ترديد الشعار  : أمة عربية واحدة .
– ذات رسالة خالدة ..
– انتظر .. مهلا مهلا  …! كأن هناك بعض الحمير الذين لم يستعدوا بعد لترديد الشعار … .صرخ الرفيق ياسر غاضبا..
هذا الشعار هو شرفك يا حقير .. يا تافه .. يا ندل … يا شرموط انت ..
هذا الشعار هو أكلك وشربك … هو سبب وجودك .. هاذا الشعار هو امك ..هو ابوك …لك هو ربك .. فهمت يا عرص ..  كرر  ولااك ..كرر ..
– أمة عربية واحدة !
– ذات سالة خالدة ! ..

خرج الضيوف واحدا تلو الآخر بعد ان صافحوا مدرس الاسلامية والقوا ببعض الكلمات التي فهم منها الوداع والأمل في لقاء قريب ، الا الرفيق ياسر ، فقد كان يحدج خالدا بنظرات ملؤها التهديد والوعيد ، ويبذل خالد الجهد ليتهرب منها بالالتفات نحو احد زملائه تارة ، ونحو نافذة الصف المكسورة تارة أخرى ، لكنه كان يعود ليلقي نظرة خاطفة في عيني الرفيق ياسر ، ويفهم ما رسمته تلك البقع الداكنة فيهما ، حيث كانت تختصر له الحال كله بكلمة واحدة  :

– ” سأعود من أجلك .. ” .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!