خلسة ..

0

قصص اللجوء

خلسة ..

رجوتها أن أعود لمرة واحدة فقط .. لالقي نظرة واحدة .. واحتفظ بنفسي بذلك الشريط الذي سأصنعه لنفسي ، وسأكون وحدي .. وحدي أنا الذي سيعيش في ذلك الشريط المسجل ويؤدي ذلك الدور الوحيد .
سأحتفظ به الى الأبد ، سأكون حرا في استعادته كما أريد ومتى أريد.

سأقتات عليه في ارضاء مستقبل بدت بعض ملامحه الساخطة أمامي واضحة كالشمس .
وعدتها أن أعود بعد الغروب مباشرة ، وسأترك كل شيء ورائي مهما حصل .
لا بأس أن تكون تلك الحياة الصغيرة التي سأعيشا ستحصر ما بين دفتي العصر والمغرب . شكرتها على ذلك أيضا ، فهو الوقت المفضل لدي دائما ، فلن أضايق حتى تلك الحصى التي تركناها وراءنا دون أن نخطرها بذلك . ترى ألا زالت ملساء ناعمة كما كنت اتحسسها بقدمي في طفولة مضت ؟

دخلت فجأة في دوامة لم يكن لها الا معنى الغيبوبة ، أو شيء مما يشبه الهلوسة أو الجنون .. فوجدت نفسي وقد القيت على ضفة النهر الأخضر ، أحاول أن استعيد وعيي واتذكر ذلك المكان الذي كنت قد طلبت أن أعود اليه .
كان النهر الأخضر يجري بصمت ودون اكتراث ، لا يأبه لشيء ، فهو لن يوقف تياره الذي يمضي نحو الشمال من أجل أن يقول لي :  مرحبا بعودتك ..
أعواد القصب الخضراء ، لازالت كما كانت من قبل ، تحاول أن تعيق جريان النهر ، فهي لم تمل من هذا ، لكنه يصر على جريانه ليتوه في غياب الشمال الذي كان موطنا دائما للضباب والسحر .


اقتربت من الضفة بحذر كما كنت أفعل وانا طفل يمر في عامه التاسع ، وألقيت نظرة على الماء الضحل الذي يلامس الضفاف ، لعلي أرى تلك الأسماك الصغيرة كما كنت أراها من قبل ، تحاول أن تبقى معلقة بين الطحالب التي مددها تيار النهر على طوله.
تذكرت أنني كنت أتسلق ذلك الجبل الصغير و الممتد شرقا وغربا ، لا ينتهي أبدا ..حاملا على كتفيه سكة القطار . . فلربما يباغتني بصوت صفيره في أية لحظة .
كانت سكة القطار القديمة قد تحولت الى أطلال تعلوها حشائش وأشواك غريبة تمتلك قوة الزمان والمكان .. وهي تسير بجوار السكة التي تم انشاؤها لاحقا ، تسير بمحاذاتها كذكرى مؤلمة لا تفارقها حتى النهاية ، وربما الى الأبد ، فكانت أحيانا في بعض أجزائها تتحول الى قطع من قضبان متناثرة على أطرف الحقول ، وأحيانا تحاكي جارتها وتسايرها الى أن تخذلها في احدى النقاط التي تعود فيها الى الاستسلام .
تمتلكني تلك الجاذبية التي لم أقوى على مقاومتها منذ الطفولة ، فمشيت باتجاه افق شروق الشمس ، بعد أن بانت عنه الشمس منذ وقت طويل ، فصارت ترقبني من ورائي ، وخيالي يحاكي خيال الحشائس الطويلة المنسية ، والتي نبتت على أطراف السكتين وبينهما ، محتمية بصدأ الحديد ، ومستأنسة بانقراض البشر كلهم .

 
لا شك ان أكثر الحجارة السوداء المنحدرة من سفحي ذلك الجبل الطويل لا زالت تذكرني جيدا.
بعد مدة من الشرود الذي سار بي على سكة القطار المنسية ، لاحت شواهد القبور البيضاء كأكف مرفوعة تشير الي : ” ها نحن لازلنا هنا ”  وقد علتها الأشواك فتسلقتها دون رحمة ، راجية أن تقيد تلك الأكف المبسوطة والضارعة نحو السماء . لكن .. متى امتدت هذه القبور الى هذا القدر من  المساحة الواسعة ؟

عبرت سكة القطار باتجاه المقبرة ، حتى لا أضيع الفرصة في ممارسة هوايتي القديمة في السير بين القبور ، وخصوصا تلك التي جفت فيها أعواد شجر الآس ، فأقرا ما تبقى من كلمات على الشواهد ، وأتساءل عن أحوال اولئك الذين افضوا الى بارئهم ، أسعداء أم أشقياء ؟ وأستعيد تلك الرعدة التي كانت تتملكني كلما قرأت تواريخ الولادة والوفاة ، فأعلم ذلك الوقت الغائب الذي طالما خشيه صاحب القبر ، ولربما لم يتحسب له يوما ..
لازالت آثار تلك الطرقات التي رسمتها اقدام اصحاب الجنائز ملتصقة بقوة وقد تراكمت فوقها ظلال الأشواك الطويلة .
لا أحد في المكان ، لا صوت ، لا قادمون جدد . ها قد ترك المكان كغابة منسية ، تنمو خلال الليل والنهار ، وبين الشمس والقمر ، والصيف والشتاء . انها الطبيعة في كلماتها الصارخة التي نطقت بها أخيرا .
السماء نقية ، والآفاق مغسولة .. مسحتها قطع الغيوم التي ستجذب معها شمس الغياب لاحقا . لا أصوات الا صوت خرير النهر المبتعد ، وأصوات تغريد لعصافير الدوري فوق شجرة صفصاف معمرة آمنة ، وقد انتصبت في ذلك المكان الذي اختارته بنفسها حتى النهاية .
لست الا زائرا ، وقد عدت خلسة . سامحيني أيتها المروج الغافلة ، فقد كنتِ جميلة دائما وانتي غافلة ومزينة بندى الفجر. انها زيارة ليس الا ، و كنت أرجوها كثيرا حتى تحقق لي ما اريد ، لكنها هي من اشترطت علي أن اعود الى هذا المكان الغائب في الزمن خلسة .. انها هي ..


اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!