غدر الغروب

0

غدر الغروب

جلس وقد أسند ظهره الى شجرة التوت ، ملاحقا بعينيه الذاهلتين فتات الغيوم المعلقة في الأفق ، وهي تتدفأ بما تبقى من حمرة الشمس الغاربة .
أراد أن يكون هناك ، فقط ليرى ماذا يوجد هناك ، عند الأفق ، حيث ينتهي العالم واليوم والشمس والنور وكل شيء .
حتى أسراب الطيور المحلقة ايضا ، كانت تتجه نحو الغروب ، ثم تختفي شيئا فشيئا داخل أطراف الغيوم الملتهبة .

بدأت أشباح الظلال تستطيل من حوله عندما غرقت الشمس وراء التلة البعيدة ، ثم بدأ كل شيء من حوله كان يأنس به  يتحول الى غريب ذو لون رمادي ، ومن ثم إلى شبح .

أحس فجأة بجذع شجرة التوت الذي كان يستند عليه وهو يئن ويعاني من ثقل ظهره ، ويحاول دفعه قدر استطاعته ليعتدل في جلسته ، بل وليغادر من المكان .
كانت الأغصان العالية من فوقه تصدر أصوات احتكاك بارد لم يعرف متى بدأ تماما وكيف .
ريح باردة جافة ، تثيرها تلك الأغصان التي بدت له وهي تتحرك بملىء إرادتها ، كأنها تقرأ تعويذة سحرية لطرد شيء أو استحضاره .
تسرب البرد من الأرض أسفله ، ليلتف كالأفعى حول أصابع قدميه الحافيتين محاولا تخديرهما بلفافات من نسائمه السحرية . 
شعر بخطوات الخوف وهو يخطو من حوله ، ويقترب منه أكثر فأكثر ، فهمّ بالوقوف والهرب من المكان ، لكن الظلال الطويلة كانت قد افترشت الأرض كلها كبقع داكنة في البداية ، ثم تمددت وتلاقت جميعها اخيرا في بقعة متصلة واحدة .
أما الأغصان فقد انطلقت كلها في هجوم نحو السماء لسد منافذه كلها باوراقها العريضة  . واستمر البرد يدب في جسده النحيل دون رحمة ، حتى وصل الى شعر رأسه الطويل ، فانتشر فيه دفعة واحدة وفي كل اتجاه .

أيقن من انه لا مفر من هذا الكمين وقد أحكم حصاره من كل الجهات حتى جهة السماء .. فلم تكن هنالك ثغرة ليهتدي من خلالها بنور قمر ، او لمعة نجمةٍ أو حتى ذيل شهاب عابر .

تقلص كل شيء من حوله في موجات دائرية بدأت تحاصره حتى أجبر على الانكماش على نفسه ، فأصبح ككرة ترتعد من الخوف عندما احتضن ركبتيه بذراعيه المرتجفتين وهو يحاول أن يدس وجهه بينهما .

من بعيد .. أصوات كئيبة تشبه عواء الذئاب ، صارت أقرب اليه اكثر كلما مُسحت ملامح الأشياء المرئية والمتبقية ، والتي كان يأنس بوجودها دون أن يشعر بالملل ، فقط منذ قليل .

أصوات خشخشة متقطعة مرت بالقرب منه ، ربما لعشب يابس .. أو ربما لذيل افعى سامة ، ثم صوت لحفيف أوراق .. و همس صرخات مختنقة يتردد صداها من بعيد . كانها استغاثات أخيرة لأرواح معذبة يائسة .
ملأه الرعب عندما سمع زعقة حادة ، ثم رفرفة أجنحة صفعَت وجهه بشدة كسوط جلدي بارد ، فانبطح على الأرض ليحمي رأسه الذي حاول ان يجتهد في رسم صورة مشوهة لهذا المسخ الذي تقصّد مهاجمة وجهه بجناحين كجناحي خفاش متوحش .

هدأ كل شيء في لحظة ، وسادت فترة من الصمت .. لكنه أدرك أنها كانت فترة استراحة لجيش الرعب المنتشر بعد الغروب فورا  ..
كان ينتظر إشارة لمتابعة التقدم ، تعلوه أعلام الخوف المرتعدة التي بدت له مرفرفة من بعيد قبل ان تصل إليه .

استدار نحو جذع شجرة التوت ، واستسلم لخوفه أخيرا ، فقرر أن يحتضنه بكل قوته ، بكل خوفه ، فأسمعه ضربات قلبه الملتهبة ، و حاول غرس أظافره اللينة في لحائه القاسي . لكن قوته كانت تنتزع منه كلما اشتد احتضانه للجذع ، وأحس بأطرافه وهي تتلاشى وتذوب في مادة العتمة ، ثم أحس بخفة عجيبة في جسده ، لكنه كان دون جسد ، دون قلب ، دون أطراف مرتجفة ، وأحس بأصابع الأغصان وهي تربت على كتفيه ، ثم لترفعه عاليا الى السماء لينطلق فيها بخفة الطير ..
كان الخوف رفيقه ، وبدا لطيفا ودودا طيبا وهو يلاعبه في كهوف الرعب و ووديان الشياطين وفوق قبور كثيرة منتشرة في اماكن لم يزرها الا الموتى والموت . .

اختفى الخوف الذي كان يرافقه ، وبحث عنه أياما طويلة لكنه لم يجده ابدا ، فأخبرته شجرة التوت أن ذلك الخوف الذي تعود على رفقته كان قد تسلل الى جسده دون أن يعلم ، فاتحدا سويا في جسد يشبه الليل بكل ملامحه وحركاته ومشاعره ..

كان هو نفسه .. الخوف بعينه ..

……………..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Don`t copy text!